الجالية تكرّم الشاعر شربل بعيني برعاية السفير لطيف ابو الحسن

   عام 1992 كرمت الجالية الاسلامية خاصة والعربية عامة الشاعر والاديب المعروف الاستاذ شربل بعيني بمناسبة اصداره ديوان (مناجاة علي) بحضور ورعاية السفير اللبناني الدكتور لطيف أبو الحسن الذي افتتح المهرجان بهذه الكلمة المؤثرة:
   كلّما دخلت منزل شربل بعيني تطالعك ظاهرتان تمتلكان فيك القلب والعقل. الظاهرة الأولى، هي تلك الإبتسامة المشعّة على شفاه أهل الدار، المشفوعة بكلمة (يا أهلا وسهلا) الصادرة من القلب. وما هذه الإبتسامة إلاّ مرآة تعكس ذلك الكنز الثـمين من المحبّة والصداقة، الذي يجمعه شربل بعيني وذووه بين حناياهم. تشعر بأنك واحد من أهل البيت، والدة عطوفة أعطت العالـم ما في المحبّة من رونق عندما ولدت شربل بعيني.
والظاهرة الثانية، التي تمتلك حواسك وعقلك، هي ذلك الشعار ـ الرمز المعلّق في أبرز مكان على جدار قاعة الإستقبال، ليراه القاصي والداني، ولو نطق لسمعته يقول: الخلق كلّهم عيال اللـه. إنه رمز وحدة الأديان والطوائف اللبنانية، جمعها شربل في بيته وقلبه وعقله، وجسّدها في مناجاة علي، ونطق بها في مزموره السابع:
دينك ديني.. دين الحبّ
الحبّ اللي بيجمع أكوان
وعلى مبدأ المحبّة، توحّدت الأديان في عالـم شربل بعيني.
في مناجاة علي تلتقي المحبّة والإيمان على مبدأ سمو الأديان، ونبذ التفرقة والتعصّب، فاللـه، كما قال السيّد المسيح، محبّة: (من أقام في المحبّة أقام في اللـه وأقام اللـه فيه)، والشرعة الوحيدة التي يتحتّم على الإنسان أن يعيش بها ولها، كما قال ميخائيل نعيمة، هي شرعة المحبّة، محبّة كل الناس، وكل الكائنات.
فلا عجب، إذاً، ولا غرو أن ينهل شربل بعيني من ينبوع عليّ، يغرف منه ما شاء، ويرتوي من حكمته وطهارته ليؤسّس معه علاقة فكريّة روحيّة، تنطلق من هذه الشرعة السرمديّة، شرعة محبّة كل الناس والكائنات.
عندما يناجي شربل بعيني عليّاً، تشعر بأنك أمام معزوفة موسيقيّة تشابكت فيها تعاليـم الأديان السماويّة بتناغم عذب، تنقلك من محيط الإيمان إلى محيط المحبّة، ومن عالـم الإنسان الأرضي إلى مجرّة الإنسانيّة، وفوق هذا وذاك ينكشف لك بأن (الخلق كلّهم عيال اللـه، أحبّهم إليه أنفعهم لعياله.
مناجاة علي، بالإضافة إلى كونه عملاً أدبياً رائعاً، هو وجه مشرق في حياة شربل بعيني، استحوذ على المزيد من إعجابنا وتقديرنا، إذ أنه تطرّق إلى موضوع يلامس حياتنا الواقعيّة، ويعكس أبهى ما في العلاقات الإجتماعيّة بين مختلف المذاهب من مزايا إنسانيّة وروحيّة، وهو بعمله هذا يعيد إلى ذاكرتنا روائع بولس سلامة وجورج جرداق وغيرهم من الذين عرفوا قدر الإمام علي بن أبي طالب.. وقَدَرَه.
قيمة هذا العمل هي في ذاته، ونزداد انبهاراً به كونه أنتج في المهجر، ليكون نبراساً للأدب المنتشر، وقدوة في التلاحم الديني. إنه رسالة المهجر إلى الوطن، أو بالأحرى، دعوة إلى نبذ العصبيّة الطائفيّة والتعصّب الأعمى، اللذين كادا أن يفتّتا الوطن. إنه رسالة إلى أولئك الذين يأخذون من التعصّب ستاراً، لا بل حصناً يبثّون من ورائه سموم التفرقة، تارة باسم الدين، وطوراً باسم الوطن، والدين والوطن منهم براء.
إبن لبنان البار هو من حمل راية التلاحم والتلاقي والمحبّة والإنصهار. بهذه الأقانيم تبنى الأوطان. فهنيئاً لشربل بعيني بهذا التكريم، وهنيئاً للبنان الواحد الموحّد، وللجالية اللبنانية الواحدة الموحدة، بشربل بعيني.
   وكان لكلمة البروفسور نديم نعيمة (ابن شقيق الاديب الاكبر ميخائيل نعيمة) الوقع الطيّب فقال:
   لـم أكن أدري، منذ تركت لبنان، وذلك منذ أسبوعين، أنني أترك لبنان إليه!!. إنني، هذه الليلة، وكأنني في لبنان، إلاّ أنّكم، وصدقوني، لبنان الأجمل.
أشعر لأول مرّة، منذ ستة عشر سنة، أنني أنتقل من لبنان الممزّق إلى لبنان السوّي. تركت لبنان الجريح، فإذا بي هنا معكم في لبنان المعافى. تركت لبنان الطائفي، فإذا بي معكم في لبنان المرتفع فوق الطائفيّة. تركت لبنان الغائص في مشكلاته السياسيّة وفي مختلف ما شوّه وجهه من قذارات، فإذا بي معكم في لبنان الجميل، الذي عرفناه جميلاً قبل كل هذه القذارات.
غريبة هي الغربة!.. غريبة: لأنها تجعل واحدكم يحن بشوق محرق، ويخرج مجلواً نظيفاً معافى، كما تخرج عشتروت من الصدفة، وإلاّ فما معنى هذه المناسبة اليوم؟.. شاعر مسيحي أو ماروني يتغنّى بعلي بن أبي طالب، وعلي بن أبي طالب يتحوّل في ناظريه وأنظارنا جميعاً إلى مثل من الخير والحق والجمال.
في الآية الكريمة: {أما الزبد فيذهب جُفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. زبد كل هذا الذي حلّ بلبنان من حرب وتشريد وقتل وانقسام. إنه زبد سيذهب جفاء. زبد أيضاً، ربّما التاريخ، إذا لـم يستنر بهذه المنارة الكبرى
كم تبدو الحياة برقعاً مفزعاً ومخيفاً من غير هذه المناسبات الإنسانيّة، التي أنارتنا عبر العصور.
لولا هذه المنارات، وأبرزها وجه علي، لكانت الدنيا كلّها بلا قيمة، على حدّ تعبيره: "أتفه من قشّة في فـم جرادة". أهنّئك يا أخي شربل بعيني على هذه الأغاني التي غنّيتها لعلي. ما قلته جميل وجليل جدّاً، وأجمل منه أنك قدوة رائعة للذين، من مثقفينا، سيستطيعون أن يعرفوا أولئك الذين نفعوا الناس في التاريخ، وجعلوا هذه الأرض أهلاً لأن يسكنوا.
كما تكلّم الشيخ كامل وهبه والشاعرة الاسترالية آن فيربرن وأدباء وشعراء واعلاميين حيث اشادوا بالشاعر بعيني العلماني الحضاري.
    يذكر ان الاديب والشاعر الكبير جورج جرداق صاحب اغنية هذه ليلتي للسيدة ام كلثوم قد منحه جائزة تقديرية كما قدمت له الجالية الاسلامية العلوية لوحة تقديرية من وحي الديوان، وأترككم مع كلمة جورج جرداق الرائعة:
   في مثل هذه المناسبة مجال واسع لكلام كثير. غير أني سأوجز، ففي الإيجاز ما ليس في الإسهاب من خفّة الوطأة على القارىء أو السامع.
عظماء الخلق الحقيقيّون هم عظماء كل زمان ومكان. وهم شرف للإنسانيّة كلّها، لا يستطيع احتكارهم أحد من هنا أو هناك، لأنهم كالضياء الذي ينتشر على الجميع.
ولأن الإنسانيّة في النتيجة واحدة، ولأن التفريق بين قوم وقوم، أو بين طائفة من البشر وطائفة، هو عمل هامشي لا جوهري، وآني وطارىء على الحقيقة وعلى الخصائص الإنسانيّة بأصولها ومجاريها وغاياتها، فإن سيرة كل عظيم في الفكر والخلق والمسلك، أياً كان زمانه ومكانه، وأياً كان قومه، ومهما حاول هؤلاء أو هؤلاء احتكاره، هي ملكي وملكك وملك الناس، كل الناس، البيض والسود والصفر والمجاورين لك والغائبين عنك وراء البحار السبعة.
وفي طليعة عظماء الفكر والخلق والسيرة، منائر الأزمنة، هداة الناس جميعاً: الإمام الأعظم علي بن أبي طالب.
وإذا كان الجمال السامي لا يستشفّه فيراه ويهواه إلاّ صاحب النظر الصائب، والمخيّلة الكاشفة، والروح الصافي، والذوق الرفيع.
وإذا كانت القيم الكبرى لا يدرك معانيها فينتشي بعبقها ويحيا لها وفيها إلاّ من أودعه اللـه القدرة على الإتحاد بجوهر الأحياء والأشياء على السواء.
وإذا كان أصحاب الجمال السامي، والقيم الكبرى، لا يستظلّهم ويدفأ بوجودهم، فيطمئن من خلالهم إلى خير الوجود ونعمة الحياة الواحدة والعدالة المنبثقة من قوة الكون المركزيّة التي هي اللـه، إلاّ الطيّبون الخيّرون المهيّئون فطرياً لأن يكونوا رسلاً للإخاء والمحبّة والرحمة، لا بالأحياء وحدهم بل بأشياء الوجود الصامتة كذلك.
إذا كان الأمر على هذه الصورة، فلا بدّ من أن يكون شربل بعيني من أصحاب النظر الصائب، والمخيّلة الكاشفة، والروح الصّافي، وممن أودعهم اللـه القدرة على الإتحاد بجوهر الأحياء والأشياء جميعاً، ومن الطيّبين الخيّرين المهيّئين فطرياً لأن يكونوا رسلاً للإخاء والمحبّة والرحمة، لكي يتمكّن من أن يستشف جمال الروح السامي في عبقري المعاني الإنسانيّة علي بن أبي طالب، وأن ينتشي بعبق القيم التي يمثّلها الإمام الأعظم، ويستظلّه ويدفأ بوجوده، ويطمئن من خلاله إلى نعمة الحياة الواحدة في خلق اللـه.
هكذا هو، وهكذا كان كتابه الشعري مناجاة علي، الذي آثر أن ينظمه بلغته المحكيّة لتأتي أوثق صلة بحقيقته، وأدق تعبيراً عن مشاعره، وأقرب إلى العفويّة الخالصة.
في هذا الكتاب ما يدلّ على رغبة الإنسان الحقّ في العودة إلى الينابيع الصافية، التي لـم تعكّرها الهموم الآنية الهامشية، التي طالما أبعدت المرء عن أصوله، وحجبت عن عقله وقلبه ووجدانه غاية وجوده. والآنيّ قد يدوم ألوف السنين، ولكنه يظل آنيّاً بالنسبة لعمر الزمان السرمدي.
لبناني آخر ينضم إلى جملة اللبنانيين المثاليين، الذين كان طليعتهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، ويشير إلى إحدى المنائر الكبرى في ظلمات التاريخ، ويقول لك: هذا هو علي بن أبي طالب، فاستنر أنت أيضاً بنوره، وامشِ على ضوئه في طريق العدالة والمحبّة والرحمة والخير، أو اختصر وقل: في طريق الحياة الصافية الواحدة التي لا تتجزأ إلاّ هامشياً وآنيّاً.
تحيّتي إلى الشاعر شربل بعيني تصحب تحيّة لبنان إلى الخيّرين من أبنائه المهاجرين، وإلى كل من سعى منهم إلى حقيقة، وأبرز قيمة، وكرّم صاحب جهد كبير.. وشكراً لكم جميعاً.
   وأخيراً تحدث الشاعر بعيني شاكراً الضيوف الرسميين والمتكلمين وقرأ بعض القصائد التي يناجي بها الامام علي، والمعروف ان الشاعر بعيني هو اديب منفتح على جميع الثقافات والمؤمن بالله الواحد الاحد وقبول الاخر.
معظم الصحف العربية 1992
**